الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فأبان أن ذلك محامل محتملة لا جزم فيها.وعن مقاتل {لا تبطلوا أعمالكم} بالمنّ وقال: هذا خطاب لقوم من بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد اثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا. يمنون عليه بذلك فنزلت فيهم هذه الآية ونزل فيهم أيضًا قوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تَمنّوا علي إسلامكم} [الحجرات: 17].وهذه محامل ناشئة عن الرأي والتوقع. والذي جاء به القرآن وبينته السنة الصحيحة أن الحسنات يُذهبن السيئات ولم يجىء: أن السيئات يذهبن الحسنات. وقال: {إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويُؤتتِ من لدنه أجرًا عظيمًا} [النساء: 40].وتمسك المعتزلة بهاته الآية فزعموا أن الكبائر تحبط الطاعات.ومن العجب أنهم ينفون عن الله الظلم ولا يسلمون ظاهر قوله: {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23]. ومع ذلك يجعلون الله يبطل الحسنات إذا ارتكب صاحبها سيئة.ونحن نرى أن كل ذلك مسطور في صحف الحسنات والسيئات وأن الحسنة مضاعفة والسيئة بمقدارها.وهذا أصل تواتر معناه في الكتاب وصحيح الآثار. فكيف ينبذ بالقيل والقال من أهل الأخبار.وحمل بعض علمائنا قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} على معنى النهي عن قطع العمل المتقرب به إلى الله تعالى.وإطلاق الإبطال على القطع وعدممِ الإتمام يشبه أنه مجاز. أي لا تتركوا العمل الصالح بعد الشروع فيه. فأخذوا منه أن النفل يجب بالشروع لأنه من الأعمال. وهو قول أبي حنيفة في النوافل مطلقًا.ونسب ابن العربي في الأحكام مثلَه إلى مالك.ومثله القرطبي وابن الفرس.ونقل الشيخ الجد في (حاشيته على المحلّى) عن القرافي في (شرح المحصو ل) ونقل حلولوفي (شرح جمع الجوامع) عن القرافي في (الذخيرة): أن مالكًا قال بوجوب سبْع نوافل بالشروع. وهي: الصلاة والصيام والحج والعمرة والاعتكاف والائتمام وطواف التطوع دون غيرها نحوالوضوء والصدقة والوقف والسفر للجهاد. وزاد حُلولوإلحاق الضحية بالنوافل التي تجب بالشروع ولم أقف على مأخذ القرافي ذلك ولا على مأخذ حلولوفي الأخير.ولم ير الشافعي وجوبًا بالشروع في شيء من النوافل وهو الظاهر.{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)}.هذه الآية تكملة لاية {إن الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول} [محمد: 32] الخ لأن تلك مسوقة لعدم الاكتراث بمشاقّهم ولبيان أن الله مبطل صنائعهم وهذه مسوقة لبيان عدم انتفاعهم لمغفرة الله إذ ماتوا على ما هم عليه من الكفر فهي مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.واقتران خبر الموصول بالفاء إيماء إلى أنه أشرف معنى الشرط فلا يراد به ذوصلة معيّن بل المراد كل من تحققت فيه ماهية الصلة وهي الكفر والموت على الكفر.{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ولنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}.الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدّر لهم التعس. وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكهم ولم يجدوا ناصرًا. وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دارالخلد وبما أتبع ذلك من وصف كَيْد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين. وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم.فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل إلى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم.ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} [محمد: 31].وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السَّلْم تحذير من أمر توفرت أسباب حصو له متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهيًا عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أُحُد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا: لوسالمنا القوم مدة حتى نستعيد عُدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر. وقد كان أَبُو سُفْيَان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلو لين بعد وقعة بدر. يتربصُون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لِما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق. وغزوة ذي قَرَد. فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غيّر النبي صلى الله عليه وسلم لقبَه فلقبه الفاسق.كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهِروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة.والوهن: الضعف والعَجز. وهو هنا مجاز في طلب الدعة.ومعناه: النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف. والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبّت في نفسه رُويدًا رُويدًا حتى تتمكن منها فتصبح ملكةً وسجيّة.فالمعنى: ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره. وأولها الدعاءُ إلى السلم وهو المقصود بالنهي.والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذٍ في حال وهَن.وعُطف {وتَدعوا} على {تهنوا} فهو معمول لِحرف النهي. والمعنى: ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجهٍ لأن الدعاء إلى السلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة.وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعُدة بالاستراحة من عُدوان العدوعلى المسلمين. فإن المشركين يومئذٍ كانوا متكالبين على المسلمين. فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم آمنوا منهم. وجعلوا ذلك فرصة لينشُوا الدعوة فعرفّهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقِع البأس.ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأُتبع بقوله: {وأنتم الأعلون}.فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسالمة من العدّوفي حال قدرة المسلمين وخوف العدومنهم. فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة.قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضَرعت إلى صاحبتها.فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} في سورة الأنفال (61). فإنه سلم طلبه العدو. فليست هذه الآية ناسخة لاية الأنفال ولا العكس ولكلٍّ حالة خاصة. ومقيّد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدّة وعُدّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعَة.فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أوكان أخفّ ضرًّا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعُوا إليه.وقد صالح النبي المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد. وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها وانكفأوا راجعين إلى مصر.وقال عمر بن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش فقد اثرتُ سلامة المسلمين.وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم.وقرأ الجمهور {إلى السَّلم} بفتح السين.وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر السين وهما لغتان.وجملة {وأنتم الأعلون} عطف على النهي عطف الخبر على الأنشاء. والخبر مستعمل في الوعد.والأعلون: مبالغة في العلوّ.وهوهنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى: {إنك أنت الأعلى} [طه: 68]. أي والله جاعلكم غالبين.و{الله معكم} عطف على الوعد.والمعية معية الرعاية والكلاءة. أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلًا.والمعنى: وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره.وصيغ كل من جملتي {أنتم الأعلون والله معكم} جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم.وقوله: {ولن يتركم أعمالكم} وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة {الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم} [محمد: 1] فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها. أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها. أي أن لا يخيبها. وهو ما تقدم من قوله: {والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم} [محمد: 4. 5].يقال: وتره يتره وَتْرًا وتِرَة كوعد. إذا نقصه. وفي حديث (الموطأ) «من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهلَه ومالَه» ويجوز أيضًا أن يراد منه صريحه. أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم. أي الجهاد المستفاد من قوله: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملًا. اهـ.
|